السبت، 13 ديسمبر 2008

حول ظاهرة الانتهازية

(جريدة " المسار" – غشت 1985 )
في ذكرى روح الفقيد الرفيق عبد الغني بوستة السرايري




الموقف الثوري من الانتهازية

لا يمكن الحديث هنا عن موقف ثوري واحد جامد من ظاهرة الانتهازية، بل أن هذا الموقف يخضع أولا للظروف الذاتية للحركة الثورية في علاقاتها بالظروف الموضوعية العامة، كما يتأثر بنوعية و شكل الانتهازية المطروحة معالجتها. فالانتهازية غير المتكتلة مثلا، المتمثلة في الأفراد الطامعين بمصلحة شخصية يجب أن تعامل بصورة مختلفة عن الانتهازية المتكتلة الطامعة في الحكم،و التي تطرح نفسها كبديل للثورة... كما أن الانتهازية المندسة في صفوف تنظيمات الجماهير الكادحة، تتطلب موقفا متميزا عن الموقفين السابقين... و للتبسيط، يمكن أن نصنف الموقف الثوري من الانتهازية إلى ثلاث مستويات :

أولا : إن الانتهازية غير المتكتلة المحدودة المطامح التي تظهر عند بعض الأفراد الذين يسايرون الحركة الثورية في طور النضال المعارض، أو يلتقون حول السلطة الثورية و يمنحونها التأييد طمعا في الوظائف و الترقي و المكاسب الشخصية، أن هؤلاء لا يشكلون في الحقيقة خطرا كبيرا، وانتهازيتهم هذه محكوم عليها بالزوال مع تصلب عود الحركة الثورية، و تقوية تنظيماتها و ضبط خطاها بشكل سديد. فهذا النوع من الانتهازية يمكن أن نشبهه بالطفيليات التي تحاول امتصاص بعض غذاء النبات، لكنها لا تستطيع و لا تطمح لقتله، كما أنها تزول بترعرع هذا النبات و تحسن الظروف المحيطة به...

ثانيا : الانتهازية في صفوف الحركة الثورية و التنظيمات الجماهير الشعبية: إن هذا النوع من الانتهازية يكون عادة كامنا، لا يكشفه إلا تغير فجائي في ظروف المحيطة بالفرد. و لذلك، فإن طريق كشفها ـأتي عادة بشكل طبيعي. و لا تحتج لجهد خاص أو خطة. فسواء عندما تتعرض الحركة الثورية في كفاحها الطويل لمحنة خاصة، أو عندما تقبل على النصر و الفوز الحاسم...في كلا الحالتين تتاح الفرصة بشكل كامل لكشف العناصر التي تملك بذور الانتهاز... و ما على الحركة الثورية في هذه الحالة إلا الحسم معه بشكل صارم و عاجل، و بدون أدنى تردد. أما إذا تغاضت الحركة الثورية بشكل مفرط عن الحسم، فإنها بذلك تكون قد أعلنت موافقتها الضمنية على الانتهازية، و تكون قد زكتها و شجعتها... و عليها بالتالي أن تنتظر تزايد هذه الظاهرة حتى تصبح بمثابة القاعدة العامة. و لسنا بحاجة إلى توضيح العواقب المدمرة و الأثر التخريبية البالغة التي يخلقها بروز الانتهازية عند فرض أو مجموعة أفراد من قيادة الحركة الثورية، إذ من البديهي أن الأثر السيء لذلك يكون دائما أعمق وأقوى.

و إذا كانت الحركة الثورية مطالبة بالحسم العاجل و الصارم مع الانتهازية التي قد تظهر في صفوفها- و ما ذلك في النهاية إلا انعكاس غير مباشر لطبيعة الهياكل الرجعية المطروح تغييرها- فإنها مطالبة أيضا بحماية أعضائها من هذه الظاهرة، و تطويق آثار المغريات التي تساعد على ظهورها، أو التغيرات المفاجئة في حالة الأفراد.

و بذلك تصبح القاعدة العامة هي : حماية الأعضاء من المغريات المعنوية و المادية و عدم اثارة ميول النفعية و الأنانية، و الحسم الصارم مع الانتهازية حال بروزها.

ثالثا : الانتهازية المتكتلة ذات المطامع السياسية،الطامحة إلى السطو على الحكم و قطع الطريق على الثورة الشعبية، هي الخطر الأكبر المطروح مجابهاته و القضاء عليه,

إن التحليل العلمي الموضوعي و الواقعي، يجعلنا نستنتج أن هذه المجابهة يجب أن تتم بدون حاجة لانتظار التغييرات الفجائية للتأكد من نوايا هذا النوع الخطير من الانتهازية، بل المطلوب هو التصدي لمهمة المجابهة في طور الكفاح المعارض، كما في ظروف الانتقال الثوري. و كلما تم خوض المجابهة الناجحة بشكل مبكر، كلما تم ربح مراحل في التغيير و التشديد المجتمع الجديد. و إذا نشدد على ضرورة المجابهة المبكرة ، فلان للانتهازية خطتها أيضا، و هذه الخطة غالبا ما تكون مبنية على ربح الوقت، و هو أمر طبيعي لديها... و إذا كان التكتل الانتهازي يتميز خلال مرحلة الكفاح المعارض بالتقلب ما بين مواقف التطرف و المزايدة على الحركة الثورية تارة، و الهدنة والذيلية و التبعية للحكم القائم تارة أخرى، فإنها في مرحلة الانتقال الثوري غالبا ما تترفع و تسحب نفسها من الصراع المحتدم بين قوى الرجعية و قوى التقدم، لأنها تعرف أن القضاء على القوى الرجعية القديمة أصبح أمرا حتميا... لكنها تدرك أيضا أن ذلك ينهك قوى الثورة و يستنزف جزءا كبيرا من طاقاتها. أي أنها تسعى إلى ربح الوقت و حفظ كل قواها حتى اللحظة المناسبة التي توشك فيها قوى القديم على الانتهاء، و تضعف معه قوى الثورة – خاصة إذا برزت في صفوفها خلافات ثانوية – لتطرح نفسها هي كبديل "فوق الجميع" و "منقذ للبلاد و شعبها"...

في مثل هذه الأوضاع يكون الخطر الأول ليس هو الرجعية التي أنهاها الصراع و الكفاح الثوري، أو أوشك على ذلك، و لكن التكتل الانتهازي و الزعامات المتسلطة، التي تكون في حالة "استراحة" طيلة فترة الصراع، و تكون قد استجمعت قواها و رصت صفوفها و رصدت أخطاء الثورة... و من ثم نعود و نؤكد على أن مجابهة و مصارعة الزعامات و التكتلات الانتهازية الطامحة للسلطة، يجب أن تتم بشكل مبكر مع اختيار أنجع الأساليب و أحسن الظروف لذلك... و إلا فات الأوان.

و في جميع الحالات، و مهما تفاوتت المستويات الثلاث في الموقف الثوري من الانتهازية التي ذكرناها، و كيفما تأخر أو سبق زمن ممارسته، يبقى أن مهمة التصفية الفكرية للانتهازية مهمة قائمة في كل وقت و حين و في جميع الظروف، و هي الأهم في نهاية المطاف.

و بالمقابل، فإن الانتهازية، و خاصة النوع السياسي الحديث منها، تقوم باستمرار بتخريب فكري و ثقافي لا تجوز الاستهانة به. فهي لا تكف عن تركيب "النظريات" بشكل مصطنع و إشاعة الأفكار المضللة و بث الأراء المعرقلة، الشيء الذي يتطلب من الحركة الثورية نضالا فكريا و ثقافيا متواصلا، بحيث تتمكن من مصاحبة الحسم السياسي مع الانتهازية بالتصفية الفكرية لها، من أجل حماية الجماهير من الأفكار و المواقف الانتهازية بالتصفية الفكرية لها، من أجل حماية الجماهير من الأفكار و المواقف الانتهازية و الحيلولة دون "تلوث" الرأي العام بها. و من بين الوسائل التي تعتمدها الحركة الثورية في مثل هذا النضال : كتابة التاريخ السياسي للانتهازية بشكل مفصل و تعميمه على الرأي العام، و تعرية و تفنيد كل أد بياتها مهما كانت تافهة، و الكشف عن التاريخ السياسي الشخصي للانتهازيين، و خاصة الكبار منهم، ليحاط الشعب علما بماضيهم و نوعية أعمالهم و ارتباطاهم، و بكل ما صدر عنهم من تخريب في حق قضية الشعب...

قد لا تكون المعركة لتصفية الانتهازية سياسيا و فكريا معركة "ممتعة"، و قد لا تكون معركة بطولة... إلا أنها معركة ضرورية، تفرضها و تحتمها طبيعة الصراع و النضال من أجل الاشتراكية و العدالة الاجتماعية، رغم ما تكلفه من معاناة و تضحيات، و صراعات قد تبدو جانبية أو "هامشية" بالنسبة لمن يكتفي بالنظرة الفوقية السطحية، لكنها في عمق التحليل و نهايته : صراعات جوهرية و مصيرية.

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا لك على طرح هذا الموضوع الجميل والمتكامل

    ردحذف