السبت، 29 نوفمبر 2008

حول ظاهرة الانتهازية

(جريدة " المسار" – غشت 1985 )
في ذكرى روح الفقيد الرفيق عبد الغني بوستة السرايري


منابع الانتهازية و أشكالها – تتمة-


... و الفئة الانتهازية الشبه مثقفة مؤهلة- بحكم ثقافتها- لأن تنشط و تتحرك في الميدان السياسي... فهي تستطيع أن تلم بمختلف المذاهب و الاتجاهات السياسية، فتتبنى هذا المذهب أو ذاك الاتجاه، و تتخلى عنه لصالح مذهب و اتجاه آخر، حسب ما يخدم مصلحتها الشخصية وفق مقتضيات الظرف الآني. و هذه المصلحة لا تكون بالضرورة مصلحة اقتصادية أو مادية بحدة، بل قد تكون معنوية أيضا، كاكتساب النفوذ و الشهرة مثلا...

و من مميزات هذه الفئة من الانتهازيين : إن أساليبها متطورة و دقيقة، و وسائلها حديثة، و ليست فجة بدائية كما هو الحال عند الفئة السابقة.

وتشكل التنظيمات النقابية و الثقافية و الأحزاب السياسية مرتعا رحبا لبروز الانتهازية ترعرعها... و أن العنصر الأساسي الكامن وراء هذه الظاهرة يتجسد في ضعف القناعة أو انعدامها عن بعض الأفراد المنخرطين في هذه التنظيمات، فبقدر ما تكون قناعة الفرد المنتمي قناعة راسخة، مبنية على انتماء طبقي لا رجعة فيه، و اعتناق للمذهب عن فهم و إدراك و قناعة، بقدر ما يكون التزامه ثابتا و تغيب لديه عوامل و دوافع الانتهازية، و على العكس من ذلك، فإن ضعف القناعة أو غيابها، و الانتماء الاعتباطي المبني المعرفة السطحية و حتى الثورية، هذا مع العلم أن الأحزاب و التنظيمات التقدمية هي في النهاية جزء من المجتمع الذي تريد تغييره، و بالتالي فلا يمكنها أن تستقطب منه بشكل إيجابي فقط، بل من الطبيعي أن تدخلها نسبة معينة من القيم القديمة و العناصر الفاسدة، و ذلك مهما بلغت مقاييس الانتماء صرامة و شدة...

وغالبا ما تكون الانتهازية كامنة في مثل هؤلاء الأفراد، و لا تظهر بالضرورة على السطح بشكل مستمر و في جميع الحالات، بل أنها تبقى في حالة سكون لفترة زمنية و ضمن ظروف معينة، حتى إذا وضع ذلك الفرد في ظروف جديدة مساعدة، برزت انتهازيته بشكل جلي و عبرت عن نفسها بشكل عملي واضح.

و يشكل الانتقال الفجائي في حالة الفرد من جهة، أو اشتداد صراع سياسي ما وصوله إلى مرحلة الحسم من جهة ثانية، عنصرين أساسيين في تشكيل الظروف المساعدة المذكورة. فالفرد الضعيف القناعة عندما تتغير أحواله بشكل فجائي- ماديا أو معنويا- سواء في اتجاه التحسن الفجائي أو التقهقر، غالبا ما يفقد توازنه، و تضعف سيطرته على غرائزه، فتظهر بصورة فجة صارخة و تدفعه أحيانا لتصرفات شاذة... و تزداد هذه الظاهرة و تنمو بشكل خاص، عندما تنتقل حركة ما من حالة المعارضة و التعرض للاضطهاد إلى حالة النصر استلام الحكم. فتصبح معرضة الانبثاق الميول الانتهازي الكامن في بعض الأفراد الذين ناضلوا في صفوفها, و بديهي أنه ليس عامل النصر هو الذي يخلق ذلك، بل و كما أسلفنا، ضعف القناعة أو عدم توازن الشخصية، هي الأسباب الرئيسية الكامنة، التي تبرز إلى السطح بمناسبة الانتقال الفجائي إلى مواقع الحكم و النصر... و إن الأمثلة عن الأفراد المنحدرين من أوساط الطبقات الفقيرة الذي ناضلوا في صفوف الحركة الثورية غاية في صفوف الانتهازية بمجرد استلام السلطة، عديدة و متنوعة, و هذه الظاهرة التي تتم عن طريق العمل السياسي تشابه تماما تلك التي تحدث بمناسبة التحسن المفاجيء للأوضاع المدية للشخص الانتهازي، و ذلك ما يصطلح عليه عامة بظاهرة "الوصولية" أي الانطلاق من أسفل الدرجات و الطموح إلى الوصول إلى مركز معين (تجاري أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي) لتحقيق المصالح الشخصية الذاتية.

إن طبعة هذه المنابع الأساسية لظاهرة الانتهازية عموما، هي التي تتحكم بشكل كبير في أشكال الانتهازية التي تعبر عن نفسها داخل مجتمع معين. وللتبسيط فقط، يمكن أن نصنف هذه الأشكال إلى صنفين أساسيين :

- الانتهازية البدائية ذات الأهداف الاقتصادية الضيقة المباشرة و القصيرة المدى و الأساليب البدائية الاعتباطية.

- الانتهازية المتطورة ذات الأهداف الاقتصادية/السياسية والمطامح الواسعة و البعيدة المدى، و ذات الأساليب المتطورة الحديثة... فهي التي تسخر الثقافة لخدمة أغراضها و تستعمل القدرات الشخصية في الخداع و المناورة لأجل الإقناع، وتلجأ إلى التكتل السياسي و التنظيم و الدعاية و"التنظير"،واستعمال الأساليب المخفية وغير المباشرة... فهي عادة تحاول كسب سمعة وطنية للتستر من ورائها, و إذا ما أقبلت على تحالف مع الاستعمار الجديد و الرجعية، اختارت لذلك أسلوبا لبقا و مخفيا واختارت التعامل غير المباشر، إلا إذا كانت مرغمة و مضطرة للكشف عن أوراقها أمام خطر يهدد و جودها نفسه. و هذا النوع من الانتهازية غالبا ما يفصل العمل في الحقل السياسي كحقل أساسي يذهب فيه طموحها إلى حد العمل على الوصول إلى الحكم بأي ثمن و بأي طريقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق